ليست سيرة أبي بكر ، ولا سيرة عمر ، وليست سيرة سعد وخالد ، وأولئك الأبطال العظماء - رضي الله عنهم - إلا فصولاً متشابهة ، أو نسخـًا مكررة ، من سيرة المعجزة الكبرى في تاريخ البشر ، سيرة الانبعاث الأعظم لقوى الخير في الإنسان ، سيرة الفتح الذي حير نوابغ القواد ، وأعلام المؤرخين .
سيرة الصحارى المتسعرات المقفرات ، التي لبثت دهورًا لا تسقى بغير الدم ، ولا تنبت غير الأحقاد والثارات ، فلما مرّت يد محمد - صلى الله عليه وسلم - على هذه الصحارى ، أنبتت رمالها الدوحة الباسقة التي ظللت الشام ذات الأعناب ، والعراق ذات النخيل ، ومصر ذات النيل ، والقسطنطينية ذات الأبراج والقباب ، وما شرّق من الأرض وما غرّب ، دوحة العدل والحضارة والخير .
سيرة (الجندي) الذي كان منزويـًا وراء الرمال ، نائمـًا في وهج الشمس ، لا يعرف المجد إلا في الحب والحرب ، في كأس أو قصيدة ، أو غزوة سلب ونهب ، فلما هذبته مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - صيرته الجندي الأكمل في تاريخ الحروب ، لم يعرف التاريخ جنديـًا أخلص منه لفكرته ، ولا أقدم منه إلى غايته ، ولا يعرف نفسـًا أطهر من نفسه ، ولا سيفـًا أمضى من سيفه ، الجندي الذي مشى في كل وادٍ ، وصعد كل جبل ، خاض البحار ، وعبر الأنهار ، وجاب الأرض كلها ، حتى نصب للإسلام على كل رابية راية ، وأبقى للإسلام في كل أرض وطنـًا لا تقوى على استلابه من أهله مردة الشياطين .
المدرسة التي أخرجت هؤلاء القواد الذين دانوا التاريخ ، وكانوا أعاجيب في الذكاء والمضاء والعبقرية ، وما تعلموا في كلية عسكرية ، ولكنهم تعلموا في هذه المدرسة فخرجوا منها بـ (شهادة) الدنيا التي فتحوها ، والحضارات التي أقاموها ، والمآثر التي تركوها ، أعظم القواد وأجل الأبطال سعد هادم عرش الطغيان الفارسي في القادسية ، وعمرو باني صرح الحضارة الإسلامية في مصر ، وابن نافع بطل المغرب ، وقتيبة وابن القاسم بطلا المشرق ، والعشرات الذين ساروا في موكب النبوغ العسكري العربي إلى سوح الخلود ، وكان أعظمهم بلا جدال ، بل كان أعظم قائد في التاريخ القديم كله بشهادة نابليون ، وغيره ، وشهادة سيرته وأخباره وشهادة من سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (سيف الإسلام) وحسبكم بها وحدها شهادة : خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - .
خالد - رضي الله عنه - الذي بدأ نبوغه العسكرية من صغره ، فكان قائد فرسان قريش ، ولولا الإسلام ، لبقي نبوغه حبيس مكة ، واسمه لقريش وحدها ، ولكان منتهى أمره أن يكون فارس قبيلته ، ولولا الإسلام لما خرج نبوغ خالد من بوادي الحجاز ، خاض خالد - رضي الله عنه - المعارك حياته كلها فما أخطأه النصر ، ولا أفلت منه بعدما ظن أنه أمسكه بيده إلا مرة واحدة كان خصيمه فيها رجلاً لا يقاس به الرجال ، وكان خصمه رجلاً لا يعاب أحد بالهزيمة أمامه ؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يحارب الله ورسوله .
أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرماة في أُحد ، على الجبل ، وأمرهم ألا يزايلوه ، فلما انهزمت قريش وولت ، وأقبل المسلمون على الغنائم ، وخالف الرماة وظنوا أنه النصر الأكيد ، رأى ذلك خالد ، وكان قائد فرسان قريش ، فوثبت عبقريته وتيقظت ، لتحوّل هزيمة قريش نصرًا ، وهجم فزلزل بعض المسلمين وفوجئوا وهربوا ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف أمامه بقليل من الرجال المثخنين بالجراح ، المحطمين من التعب ، فلم يستطع خالد بعبقريته وفرسانه اختراق هذا السد من الأجساد ؛ لأن في هذه الأجساد إيمانـًا بالله تعالى وإيمانـًا برسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا كان البارود يرتد أمام الأسمنت المسلح بالحديد ، فإن قوى الشرى كلها ، والقنبلة الذرية معها ، ترتد كلها أمام اللحم والدم ، إذا كان مسلحـًا بالإيمان .
وكان خالد - رضي الله عنه - يعلم مدى نبوغه وقدرته ، فلما رآها لم تصنع شيئـًا ، ورأى النصر قد انتزع بعدما صار في كفه ، تيقن أنه ليس أمام بشر مثله ، ولكنه حيال شيء فوق البشرية ، وما طالت به الأيام حتى علم أنها النبوة .
وضعفت عبقرية الأرض أمام وحي السماء ، وأسلم خالد - رضي الله عنه - إسلام اقتناع ويقين ، ونقله الإسلام من أفق إلى أفق ، ورفعه من جوّ إلى جوّ ، حتى أشرف به على الدنيا كلها فأراها هذه العبقرية التي كانت حبيسة في بطن مكة لا تراها الدنيا .
كان يرى الظفر ، أن تنكل قبيلة من العرب ، بقبيلة من العرب ، وأن يذبح العربي ابن عمه العربي ، ابتغاء الغزو ، أو إظهار الشجاعة ، أو طمعـًا بغنيمة وكسب ، فصار بعد الإسلام يرى الظفر في أن يدفع عن الحق ، أعداء الحق ، ولو كان أشد قوة ، وأعز نفرًا ، وكان أول امتحان له في الدرس الجديد الذي تلقاه في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم مؤنة .
حين التقى ثلاث آلاف عربي ، ممن تخرج في هذه المدرسة ، بمائتي ألف ، وحين قضى القائد الإسلامي زيد شهيدًا في المعركة ، فأخذ الراية خلفه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقضى ، فأخذ الراية عبد الله بن أبي رواحة - رضي الله عنه - فقضي ، فلم يجدوا من يولونه القيادة إلا خالدًا - رضي الله عنه - .
وحمل الراية ، وما معه إلا بقية الثلاث آلاف ، وحوله من العدو مائتي ألف ، وليس في الدنيا قائد يستطيع أن ينقذ هذه القبضة من الرجال ، من وسط هذا اللج ، إلا أن يأتي بأعجوبة ، وقد أتى بها خالد - رضي الله عنه - .
واستطاع أن يخرج من لجة البحر من غير أن يبتل ، وأن (ينسحب) من وسط اللهب من غير أن يحترق ، وأن يسجل للذكاء العربي ، الذي هذبه الإسلام هذه المنقبة في تاريخ الحروب .
ولم تكن بعد ذلك معركة في تاريخ الجهاد الإسلامي ، إلا كان فيها خالدٌ - رضي الله عنه - البطل المعلم ، والقائد العبقري ، ويوم نفخ الشيطان في آناف الأعراب فارتدوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا أن يزلزلوا بناء الإسلام ، كان من نعم الله تعالى على خالدٌ - رضي الله عنه - أن جعل على يديه تثبيت البناء ، وأن يرد عنه عادية المخربين .
فلما استقر الأمر في الجزيرة ، وثبت العرب على الإسلام ، وكتب الله لهم شرف حمل النور الهادي ، الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى آفاق الأرض ، ليضيئوا القلوب بالإيمان ، والعقول بالعلم ، والأرض بالعدالة والأمان ، كان خالد - رضي الله عنه - في مقدمة الأبطال الذين قادوا هذا الزحف المبارك ، فمشى أولاً إلى العراق ، ليواجه الدولة الطاغية المتجبرة ، دولة كسرى ، فخاض في سلسلة من الوقائع المظفرة ، كانت المعارك الأولى التي صدعت هذا الصرح العالي .
ولما جاءه أمر الخليفة بأن يذهب إلى الشام ، أتى بما لم يأت بمثله إلا نفر من عباقرة القواد في تاريخ الحروب في الدنيا ، حين اقتحم البادية ، بادية الشام .
ومن المعروف أن الجيش العربي أجرأ جيش وأخفه وأسرعه انتقالاً ، شهد بذلك الأصدقاء والأعداء على السواء ، ولكن الجيش العربي لم يعرف حركة أجرأ ولا أسرع ولا أعجب من انتقال خالد - رضي الله عنه - بعشرة آلاف من العراق (من الحيرة) إلى الشام ، مخترقـًا الصحراء التي ليس فيها نقطة ماء إلا ما حمله على ظهور الإبل ، وما ابتكره من حمل الماء في بطونها ، وكان جنده يطيعونه ويتبعونه راضين واثقين ولو كلفهم خرط القتاد ، رحلة عجيبة لا يتسع الوقت لوصفها ، فارجعوا إلى من شئتم من المؤرخين فسألوهم ما خبرها ، تسمعوا قصة من أروع قصص المغامرة ، ومثلاً من أعلى أمثلة الرجولة والعزم .
وماذا تظنون صنع بعدما وصل ديار الشام ؟
إن الواحد منا يقطع هذا الطريق اليوم بالسيارة مضطجعـًا ، يأكل ويتحدث وينام ، وعنده المدفأة في الشتاء ، والمروحة في الصيف ، فلا يشكو بردًا ولا حرًا ، ثم إذا وصل استلقى من تعبه على الفراش ، وخالد - رضي الله عنه - قطعها على ظهور الإبل ، تحت شمس الهاجرة ، ووسط برد الليل ، مع الجوع والعطش والخوف ، فلما وصل رأى أمامه جيشـًا كثيفـًا من الروم ، وجيشـًا أكثف منه يتجمع قريبـًا منه ، والمسلمون فصائل ليس لها قيادة موحدة ، فما شكا تعبـًا ، ولا ابتغى راحة ، ولا انتظر الأوامر من المدينة ، بل حمل التبعة كاملة ، وبادر إلى العمل ، فجمع الفصائل الإسلامية وقادها ، وعمد إلى الجيش الرومي الأدنى ، فضربه في (أجنادين) ضربة أذهبت روعه ، وأطارت صوابه ، ومزقته شر ممزق ، ثم وثب إلى الجيش الآخر في (اليرموك) .
واليرموك هو اليوم الأغرّ في سيرة خالد - رضي الله عنه - وهو من أيام الإسلام المعدودات .
وكان العرب لا يزيدون على خمسة وأربعين ألفـًا ، سلاحهم ضعيف ، ومنزلهم بعيد ، والميرة والمدد منقطعان عنهم إلا أن ينتظروا أيامـًا لا تنتظرها المعركة ، والروم نحو مائتي ألف ، قد احتلوا من اليرموك موقعـًا حصينـًا ، ومعهم الذخائر والميرة ، وهم في بلاد كانوا يحكمونها ، ويملكون مواردها وخيراتها ، وإن تكن بلادًا عربية من الأزل ، وكانوا على تعبئة فنية ، والعرب بشجاعتهم ، وقوة قلوبهم ، لا يعرفون التعبئة ، إنما يعرفون الهجوم هجوم النمر الكاسر .
ولم يكن خالد -رضي الله عنه - رأى تعبئة حربية من قبل ، فلما رآها لم يُستَطر لبه ، ولم ينخلع قلبه ، بل أحاط بها بنظره ، وتعلمها في لحظة ، وعبأ الجيش العربي تعبئة كانت هي الأولى في تاريخ العرب .
فانظروا إلى عبقرية خالد - رضي الله عنه - حين تعلم من نظرة ، ما تفنى الأيام ، وتنقطع السنون دون تعلّمه ، وإلى مرونة الجيش العربي ، وذكائه وسرعة اقتباسه ، حين تلقى هذا الدرس من مرة واحدة ، وأدى فيه - الامتحان - العاجل ، وكان من الناجحين .
وطهرت هاتان المعركتان أرض الشام من الروم ، وعادت عربية مسلمة ، وكانت إحدى حسنات خالد - رضي الله عنه - .
واسمعوا الآن خبر أعظم نصر ناله خالد - رضي الله عنه - : لقد انتصر على خصوص قريش في الجاهلية ، وانتصر على مشركي قريش في الإسلام ، وانتصر على المرتدين حتى ردّهم عن ردّتهم ، وأيقظهم من سكرتهم فعادوا إلى طريق الحق والهدى ، وصاروا جندهما وأعوانهما ، وخضع لعبقريته أكبر جيشين عرفهما التاريخ القديم ، جيش كسرى وجيش قيصر ، ولكن أعظم انتصار ناله خالد - رضي الله عنه - هو انتصاره على نفسه .
تلك الانتصارات حاز مثلها قواد كثيروان ، من قواد المبادئ كسعد وابن العاص - رضي الله عنهم - وقواد المطامع كالإسكندر ، ونابليون ، وقواد التخريب والتدمير كجنكيز وهولاكو وتيمور ، ولكن هذا الانتصار لم يحزه قائد قط قبل خالد - رضي الله عنه - ولا سمعنا أنه حازه قائد بعده هو انتصاره على نفسه على ميوله وغرائزه ، على طبيعته الأرضية .
وذلك أنه لم يكد يفرغ من اليرموك ، ويقف ليقطف ثمرة النصر ، التهاني والدعوات ، وحتى لقيه كتاب العزل ، وكان قد وصل من قبل المعركة ، ولكن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - كتمه حرصـًا على المصلحة ، ووفاء لخالد - رضي الله عنه - .
وعمر - رضي الله عنه - لم يعزله بغضـًا به ، ولكن ضحى به في سبيل المبدأ ، في سبيل التوحيد ، رأى الجند متعلقين به ، معتمدين على عبقريته ، فعزله ليفهمهم أن النصر من الله تعالى ، وأن الله تعالى ينصرهم بخالد وبغير خالد ، وليتكلوا على الله عز وجل لا على بشر مهما سما .
ثم إن عمر - رضي الله عنه - لم يعزله ، إنما يعزل من يولي ، وخالد لم يولّ القيادة العامة ، بل كانت (شاغرة) فعين لها أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم .
ولسنا في الكلام عن عمر - رضي الله عنه - ولكنا في الكلام عن خالد - رضي الله عنه - أفتدرون ماذا كان أثر العزل في نفسه ؟
قال : والله لو ولّى عليَّ عمر امرأة لسمعت وأطعت !
الله أكبر .. هذا والله هو النصر الحق .
رحم الله خالدًا ، ورضي عنه وجزاه خيرًا .